Posts Tagged ‘قبر’

قوس أمام الماء

17 سبتمبر 2010


إلى انسان كان يحلم ان يدفن في صرفند
أبي ،،


وقت مرّ .. أشعث و مكلل بدمع أخضر .
يموت ( محمد ) الجثمان ملقى في ساحة الدار يثقب هالة الصمت و طلاسم الوجع ، يمر الناس … يتفحصون أنعكاس الحكايا و الأحاديث لا تنتهي و على الشفاه سواد مسكون بفوضى المشاعر و كتل الهدير المسكونة بالدهشة و الهروب و البقاء و العويل ، يتساءلون ، متى الدفن ؟ لا أحد يجيب و تُطلق النسوة القليلات حشرجات آيات مقدسة معلقة بين الأرض و السماء وهن يحاولن امتصاص الدمع المالح و كأنه صوت حسون قطع جناحه الأيمن و فقئوا عينيه و بقي هائم بالفراغ و اللاجدوى…

موجع جداً فراغ المسافة بين قرية ( بيت دجن ) إلى ( صرفند)* المحسوبة بالزمن اللازم لاجتيازها كحبل الحزن الذي يربط بين الناس أمام الجثمان الآيل للانهيار و هم يبتلعون جمرات الرحيل القزمة، الأرض تضيق كالفراغ بين عظم الجسد ولا يدري أحد على وجه الدقة كم يستغرق اجتياز المسافة .. الكّل يخمّن … بدأت حساباتهم تأخذ شكل العبث و سكين مسننة لذاكرة متعبة تحتز الوقت، وصية محمد في لحظة حنين شاق أن يدفن في مقربة قريته و على فمه كان سيل من الكلمات الموجعة و لا شيء يعوض خسارته لقريته سوى أن يدفن فيها ، فترك قلبه على منضدة الانتظار..

ما أبشع عتبة الخذلان حين كان يسهر حتى آخر الليل ، يعد المسافة بالخطوة الى القرية و يعرج عشرات السموات ، يأخذ شيئاً و يشنق كتفه على صهوة جواده ، يعود بالصدر المبلل بغيم الأرض الطيبة ، لا يدري إن كان يسرق الوقت كضريح نبي أو الوقت يأكله كنخلة صفراء من الحزن البليد . زيتون القرية الذي يشكل ذاكرة لا تفرط بأسماء أحبته، حتى حجارتها و رمانها تترك عبق ياسمينة فضية في روحه، و تربتها التي كالشامة الزرقاء على كفه تشكل أرقاً يدفعه للمجازفة، و مسجد القرية المتهالك يدفعه للعودة.

كل مساء يودع بقايا أحلام الأمس على أمل أن يأتي حلمه الضائع كصهيل لمواسم الندى، كم من الأحلام شاهد وهي تغربل أنة هاربة من حنجرة غربة، و كم من الأرق يتبعها..

يرى نفسه مقتولاً عند ( مقام لقمان) و كم مرّة شاهد الجنود على بيادر القرية و لا تكسوها سنابل صباح جميل و في جوف روحه كانت تختنق الأغنيات و لا تورثه خيط المرمر المرتجى .

كم حدّث نفسه، لو أن ( أحمد ) و ( و مصطفى ) لم يغادرا، رحم الله أبي ، كيف حملته ساقاه ليموت هناك …
كانت أوجاع محمد تأكله من داخل جسده كزلزال ..

بدأ ينحني أمام أزمان ليست له و يرتجيها ماء للغفران و العودة. حتى الأمكنة التي ألفته وأحبها يسري لها ليلاً ، يضمد جراحاً لم يداوها زمن و كأنها حصلت للتو فتبتلت مشاعره و تصبح ندية..
ما كان يؤرقه وجه الأمكنة و صراخها أن لا يعود تجبر ماء قلبه على العويل و تجعله من الفاتحين لشهوة الأنين ، لا أحد يحُس بوجع الأرض ولا احد يغتسل بماء الرب عندما ساءت عورة الجرح، و لا أحد يسمع همس السنابل وهي تنادي كغواية امرأة الروح وهي تنكح الموت ذات خيبة، ولا يدري أحد كيف ينطق الأقحوان و تردد وجعه الذي لا ينتهي عدماً عبر قرحة النحيب خلف أذن الحجارة التي تهدي الخطة الساقطة عليها نعل الفرح و الحياة ..

كان محمد يسمع ولا يعي كيف يضمد الجراح كتب في وصيته أن ينقلوه إلى هناك فقد مات و مازال على القماش الأبيض يترنح و ينتظر أن تشفى جراح حلمه و أن تذهب الألم الغربة برفقة الريح الصرصر ..

هناك قريبا ً من تناغم لغة الأشجار و البلابل و الاقحوان ، هناك حيث الشتاء الذي انتحر عند أقدام الحيارى التائهون في عرض الحزن و البحر ، من لا وطن لهم ولا بيوت تفتح نوافذها لمواكب الجوع الاهثون على موائد اضمحلال الشوق ، هناك حيث حفدة الآلهة المكسورة الجناح بزينة التعب ، هناك حيث ينهض الموتى يرممون قبورهم كما يرمم المطر شهوة الأرض المشدودة كقوس أمام الماء، كان يشاهدهم ، يصرخ بهم ، سأنضم اليكم ، يوماً سآتي اليكم ..

كان كأنه ميت لحظتها ، حمل الرجال القلائل النعش ، و ضعوه في سيارة مكشوفة ..و ساروا باتجاه القرية ..
في المكان الفاصيل بين القرية و صرفند استوقفهم ضابط الشرطة سألهم : الى أين ؟
قالوا : مقبرة القرية ؟؟
قال : و أي قرية ؟ و التفت الى رجال الشرطة أمراً أن يقوموا بارجاعهم .
قاوم المشيعون ، و ساروا باتجاه المقبرة و كان الحزن و الغضب يلتهم لحم قلبهم و أجسادهم مليئة بأرواح شعب كسيح كامل ، و على مشارف المقبرة طوقهم الجنود ، قال ضابط الشرطة : كم ميت معكم ؟
قالوا : واحد …
أجاب : عودوا به .. قبل أن يصبح العدد عشرة…

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*صرفند

( نافذة على جدار قلب )

5 أوت 2009


يرسمون الموت ..
ويرسمون ولادة الحياة من موت يأتي ..
تفرّس في الجدران .. عبارات معلقة بهت طلاؤها .. و تلاشى مدلولها .. الصور التي تكدست لصقاً لم تعد تنم عن شيء ما…
عجيب أمر هذه المدينة.. في الصباح يبدأ القتال .. و في الظهيرة يتوقف .. و عند المساء تتراقص ملاهي الليل ، و تملأ المدينة بعبق المشروبات …
لا يدري أحد من يقتل الآخر؟ .. و لا يدري أحد لماذا يموت ؟ .. و في ذاك المساء ، بددت الريح سكون المدينة .. و بعثرته في زوايا أرهقت ضياء المصابيح ؟؟ كان يبحث عن موت لا يدرؤه موت .. فكرة الموت تحت العجلات .. أو على شاطئ بحر يبتلع الموج .. الموت، الحقيقة الوحيدة و المطلقة لديه.. لماذا يكدسون الأموات ؟ أو لماذا يعلبونهم في قبور لا تتسع لأحلامهم ؟ لماذا لا يطلقون الأشياء مثلما يحرر الموت أرواحهم من صناديق تآكلت أو تمزقت ؟ .. هواجسه، و اعتقاداته – كما كان يحلو له أن يسميها- تدفعه للمجازفة أو لم يعد يفرق بين المجازفة و الحكمة، و ربما كانت هواجسه حكمة…؟
أخذه طريق ترابي صعوداً .. ابتعد عن الأضواء ، و عن صخب سكون الأشياء …
انحنى ليلتقط حجراً يرمي به كلباً يسير جانب الطريق… استقام عوده .. لاحظ ذيل الكلب.. استنكف عن ضربه .. اقترب منه ، وسارا سويةً .. أكمل الطريق .. و عند تقاطع الأفق مع السماء ، جلس مستنداً إلى جذع شجرة ، كانت المدينة تشع بين الأفق و قلبه .. أحب تلك المدينة .. غاص في تفاصيلها و استظهر كل أزقتها ..و يكاد يجزم بمعرفة سكانها الأموات.. الذين رحلوا.. و يرحلون .. يتذكر لحظات موت الأًصدقاء.. و المدينة التي لا تنام ، تتذبذب شطآنها بين مد و جذر .. مدّ ضياء الأحياء و جذر انقطاع التيار الكهربائي …
أحس الكلب يقترب من جسده ، يحاول أن يأخذ دفئاً .. مسّد رأس الكلب و خاطبه :
– لماذا تترك مدينة تملأ بالنفايات ؟ و تهجر أعراساً وتأتي إلى هنا ؟ هل تبحث عن صيرورة موت مثلما أبحث أنا ؟ … ما الذي يوحدنا – يا صديقي- في هذا الليل ؟
لم يبد الكلب أي إشارة !…
بدأ سعيد بالغناء الهادئ الذي لا يكاد يُسمع من غيره .. و الكلب يحرك رأسه كلما غصّ سعيد بكلمة من اللحن العذب ..
( يا جبل البعيد .. خلفك حبايبنا .. ) و هكذا استقرت عيناه تحت جفنين مرهقين يلتصقان عنوة.. عند انتصاف الليل ، تساقطت أوراق الشجر .. و هبت ريح تنذر بحدث كوني ما ..
استفاق ، نهض ، حاول أن يعقد صلحاً مع الطبيعة … بحث عن حفرة أو مغارة يتقي بها غضب الطبيعة ، لحظة ، ما هي إلا لحظة حتى انطلق الكلب نزولاً .. هرول خلفه … أيقن أن الكلب مسكون بروح الخلاص … تبعه .. انحدر انحداراً حاداً …رأسه يسابق ركبتيه ..يلهث مثل كلب أعياه قيظ صيف حار.. سقط .. تدحرج .. نهض .. تكررت عملية السقوط … يقف الكلب ينتظره …
أكملا الطريق إلى حديقة صغيرة .. هوى على مقعده .. مد ساقيه و نظر في سماء قذفت نجومها برداً … لم يشعر بسقوط الماس ، و غفا وتراكمت أخيلة الذين أحبهم ، و تناثرت أشلاء الملصقات .. شعر بدفء الأحلام .. انتقلت روحه مثلما يرجو .. إلى مدينة لا يسكنها الرصاص، ولا تخدش حياءها رائحة الموت، و لا يبدد سكون روحها ضجيج عجلات السيارات و هي تزعق كل حين .. أحس بشعاع يداعب جفنيه .. تمطى .. فتح ذراعيه .. شاهد للمرة الأولى في حياته أن الشمس تشرق من الغرب ، حاول أن يحدد الاتجاهات لكنه أصر على أن الشمس قلبت مسارها …
مثل كل المدن التي اغتصبته، و شربت عرقه ، و سال دمه على كل الطرقات الموصلة للموت .. لكنه مثل الشمس يقلب مساره .
بحث عن الكلب .. كان يتكور بجانب حوض من الزهور … لا يحمل في هذا الخريف زهراً .. يحدّق الكلب فيه .. ردّ التحية :
– صباح الخير ..
بحثت يده في جيوبه عن شيء يشبه التبغ الأشقر .. وجد لفافة مبللة ، حاول تجفيفها .. لكن الماء أفسد تبغها ..ألقى بها ، تابع بعينيه سقوطها … تسمرت عيناه .
كانت قادمة مع شروق الشمس .. يملأ وجهها طفح من كبرياء .. و يحرك ساقيها شموخ افتقده .. في كل الذين مازالوا ينتظرون الموت .. ( لماذا نخبئ طفح روح؟).
و لماذا نختلس أسئلة لا تعيده إلى الصفاء ؟ شكل هاجسه نمطاً لحياة يبدؤها التسكع ، و تنتهي بالتشرد .. جاءت تداعب نظراتها إنساناً نام في داخله منذ مات آخر طفل أمامه .. كان يحس لحظتها أنْ ليس في اختيار الأرواح عدل .. و هكذا سجل على صفحة قلبه أسماء الأطفال الذين ماتوا و لم يقتلوا أبداً ..
– صباح الخير ! …
لأول مرة منذ أن قرأ الفاتحة على أرواح الشهداء يشعر أن الصباحات تشرق من أرواحهم …
لم يستطع إلا أن يبتسم و يقف و يطلب منها :
– إذا تكرّمت سيجارة .. عادة أنت تحملين سجائر .. أليس كذلك ..؟
– عليك أن تردّ التحية ..
نظر في وجهها .. على خديها يرتسم أفق يمتد .. يلامس حقلاً أخضر في عينيها ….
لم يدر و هو يمد يده، و أصابعه تحركها روح المرح ، و تهتز أشواق غادرته من زمن بعيد ، تتلبسه الآن ..
– عفواً سيدتي .. أنا لا أملك لغة تساوي إشراق عينيك .. أخذ سيجارة .. أشعلها ، لحظة و إذا بركان عشق ينفجر في داخله لحياة .. كم تمنى أن تتوقف! ..
جلس .. نظر …
– أنا تذكرت .. أعتقد أنك ( وفاء ) ؟ لماذا تجرحين ذاكرتي ، لتنزف أرواحاً ؟ لماذا تحاولين إحياء أشياء صرفتُ عمري لقتلها ؟…
– جميل أنك تذكرت هذه المرة .. أنا لا أريد أن أجرح .. أنا أحاول أن أضع لمسة على جرح يجب أن يندمل .. لو أننا جمعنا نجوم السماء و وضعناها في سلة .. و وزعناها على الأرواح المسكونة بالعشق لاحتجنا لالآف السماوات .. و لو كنت تدرك تسامي الروح ، و عبق الصعود ، لكانت هذه السنوات لم ترهقني..
– ماذا عليّ أن أتذكر ؟ و ماذا أفعل ؟
– أن تبدأ خطوة واحدة ليس غير !..
ألقى بعقب سيجارته تجاه الكلب .. تبسم لها ، و أشار بيده :
– هذا أنقذني .. و الروح المسكونة فيه .. كنت أحسها روحي .. و أسلمت ذاتي له في ليل كاد أن ينقلني إلى نجم في سلتك …
– الخطوة التي نسيرها معاً ، هل توافق عليها ؟ ..
– ما هي ؟ أرهقتني الطرقات و الأزقة و الليل .. و الشمس و المقابر .. كيف يمكن أن نبدأ خطوة دون أن نعرف إلى أين نسير ؟ .. أشعر أنني وصلت إلى النهاية ، أقترح أن تأخذيني في أي اتجاه ..
– أتعرف الحي الشرقي في قريتنا ؟ هل تتذكر المسجد ؟ و هل تتذكر البيوت التي تحضن البيوت ؟ في تلك الأزقة كبرنا معاً . كنت شقياً .. لا يخلو يوم من شجار مع الفتيان .. كانت فتاة تصغركم قليلاً .. تبتسم ، ترفع جديلتها .. تلف عنقها ، و تمتص الابتسامة عندما تلمحون ثغرها .. تلك الفتاة ، تعلقت طفولتها بشاب هجر القرية ، و ضاع في زحمة الأحداث .. ابتلعته المدن .. و علبت روحه ..
مقاطعاً …
– أنتِ .. أنتِ .. أنت من تقاتلنا من أجلها .. في الصباح..؟! ، هذا الصباح تَدثرت بابتسامتها ، عندما كانت تنزف السماء …
لماذا يحملنا المصير لدروب لا إياب فيها ؟ و أنت تطاردين شبحاً كان يوماً أمنية ؟
– من هنا سنبدأ الخطوة الأولى .. إلى حيث كنا ، و كانت طفلة تسحب جديلتها .. و تغطي بها ابتسامتها … و يتساقط جمر عينيها …. عندما يصاب فتاها …
– أنتِ تلك الفتاة التي نامت في وجداني